ولكم في القصاص حياة (ج-1) بقلم الشيخ عبد الناصر بليح
عبد الناصر بليح يكتب :”وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ”(1)
قال تعالي:”وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”(البقرة/179). بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص بأسلوب لا يُسامى، وعبارةٍ لا تُحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن. ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده، وهو (الحياة) في (الإماتة) التي هي القصاص وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية. ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم: (القتل أنفى للقتل) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع) وقولهم: (أكثروا القتل ليقلّ القتل) وأجمعوا على أن كلمة (القتل أنفى للقتل) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق.. والله أعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين كتب علينا العدل في الأمور كلها ولاسيما في الحكم بين الناس :”إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” (النساء/58). حرم علينا الظلم بشتي صوره ,كيف وقد حرمه علي نفسه؟فقال في حديثه القدسي:” ياعبادي إني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..”( مسلم والترمذي..). ومن مقتضي عدله سبحانه وتعالي أنه نظم الحياة في الكون لتقوم علي مبدأ الثواب والعقاب ..وتلك هي سنة الله في كونه يكافأ فاعل الخير علي فعله ,ويجازي مرتكب الشر عما اقترفت يداه ,فمن يزرع المعروف يحصد الشكر ومن يزرع الشر يحصد الندامة:” هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ “(الرحمن/60). وهل عاقبة الإساءة إلا الخسران .. ومن هذا المنطلق جعل الإسلام بعض العقوبات الناجمة عن جرائم نفسية أو باطنية من اختصاص المولي عزوجل لأنه وحده الذي يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور. أما الجرائم الظاهرة والتي يمكن إثباتها فقد وضعت لها عقوبة دنيوية محددة يوقعها الحاكم أو من ينوب عنه في الإطار الذي يحدده الإسلام وحسب حجم الجريمة وهو ما يعرف بالقصاص.. والقصاص في اللغة:”أصله قص الأثر أي اتباعه ,ومنه القاص لأنه يتتبع الآثار وقص الشعر اتباع أثره,فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل يقص أثره فيها ,ومنه قوله تعالي:”فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا”(الكهف/64). وقيل :لأن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع ,يقال قصصت ما بينهما :أي:قطعته “(فتح القدير للشوكاني ). وقال في اللسان :قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالي :” وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ “(القصص/11).أي تتبعي أثره.. والقصاص :”القود وهو القتل بالقتل قال الشاعر: فرمنا القصاص وكان القصاص حكماً وعدلاً علي المسلمينا.(لسان العرب لابن منظور). وفي الاصطلاح: هوتأديب الجاني جزاء ما اكتسبه من جرائم ,وذلك بأن يفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه من غير زيادة ولا نقصان.لأنه يشترط التزام المماثلة ,فمن قطع يد رجل آخر فإن كانت اليمني قطعت اليمني وإن كانت اليسري قطعت اليسري “(مجلة منبر الإسلام العدد 12السنة 32). الهدف من القصاص: لما كان الإسلام دين الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار ..وليس دين حرب وخوف ونزاعات ..فأمن الفرد في الإسلام يسبق في قيمته وأهميته الغذاء والكساء والمسكن والصحة والعافية ..فالأمن نعمة من أجل نعم الله عزوجل علي بني خلقه حيث ذكر الله عزوجل الأمن علي لسان خليل الله إبراهيم في القرآن الكريم أكثر من مرة فتارة يقدمه علي الرزق فيقول تعالي:”وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..”(البقرة/126).وتارة يقدمه علي العقيدة فيقول:”وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ”(إبراهيم/35). وتقديم خليل الله إبراهيم في دعائه نعمة الأمن علي غيرها من النعم لأنها أعظم أنواع النعم ولأنها إذا فقدها الإنسان اضطرب فكره وصعب عليه أن يتفرغ لأمور الدين أو الدنيا بنفس مطمئنة ، وبقلب خال من المنغصات المزعجات . كما قدم المولي عزوجل الخوف علي الجوع والفقر وموت الأحباب وتلف الزروع والثمارفقال تعالي :”وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”(البقرة/155-157). وقد دعي الإسلام لتحقيق الأمن والأمان لذلك وقف بحزم تجاه هؤلاء الذين يروعون الأمنين ويخربون في الأرض”إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواأَوْيُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” (المائدة/33). و قد عد النبي عليه الصلاة والسلام الأمن من أعظم النعم وأحد حاجات الإنسان الأساسية إذ جاء عنه قوله (من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها “(الترمذي وصححه ). من أجل ذلك هدف الإسلام أن يكون القصاص مظلة واقية تقي الضعفاء شرور الأقوياء وتحمي الآمنين من عبث العابثين واعتداء المفسدين في الأرض ..وغايته ردع الظالم والانتقام من الجاني وإنصاف المظلوم والتشفي من المعتدي منعاً لانتشار الجرائم والفساد والحد منها وشفاء لصدور قوم ظلموا بغير حق إذا كانت الجناية قتلاً عمداً,وراحة نفسية لمن اعتدي عليه بجراح أو ضرب أو إتلاف عضو من أعضاء جسده ,لأن المجني عليه حين يري أن القضاء العادل أخذ له حقه واقتص من الجاني ارتاح باله وهدأ ضميره واطمأن فؤاده فلا يفكر في الانتقام الذي يشيع الفوضي